يمكننا تعريف علم الأصوات Phonetics بصورة مبسطة بأنه العلم الخاص بدراسة الأصوات اللغوية. ويمكن أن نقوم بدراسة الأصوات من وجهات نظر ثلاث:
(1) فيمكن دراستها باعتبارها النشاط الذي يقوم به المتكلم ، من جهة أعضاء النطق والعمليات الخاصة به ، ويسمى هذا الفرع "علم الأصوات النطقي" articulatory phonetics.
(2) كما يمكن دراستها بحيث نركز اهتمامنا على الموجات الصوتية الناتجة عن الكلام ، وكيفية انتقالها عبر الهواء ، ويسمى هذا الفرع "علم الأصوات الفيزيائي" acoustic phonetics ومجاله ما بين فم المتحدث وأذن المستمع.
(3) ويمكن أيضاً دراستها من جانب إدراك هذه الموجات الصوتية عن طريق أذني المستمع ، فيما يتعلق بالناحية الفسيولوجية (العضوية) للأذن وأعضاء السمع المتصلة بها ، وفيما يتعلق بالجانب النفسي للإدراك. ويسمى هذا الفرع "علم الأصوات السمعي" auditory phonetics ومجاله أذنا المستمع ومخه.
وبالإضافة إلى هذه الفروع الثلاثة لعلم الأصوات ، فإن هناك فروعاً أخرى ، منها "علم الأصوات التجريبي أو المعملي" experimental phonetics الذي يستخدم الآلات ولأجهزة لرسم مخارج الأصوات وخصائصها. ومنها علم الأصوات التاريخي diachronic phonetics أو genetic phonetics الذي يدرس تطور أصوات لغة ما عبر الزمن. ومنها "علم الأصوات الوصفي" synchronic phonetics الذي يصف أصوات لغة ما في مرحلة معينة فقط.
فائدة علم الأصوات
بعد هذا التعريف الموجز بهذا العلم ، الذي يمثل أحد فروع علم اللغة Linguistics، فإننا نطرح سؤالاً ، نحاول الإجابة عنه بصورة مبسطة. وهذا السؤال هو :
ما فائدة علم الأصوات ؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول إن أول إجابة تتبادر إلى الذهن ، وإن كانت أقل الإجابات قبولاً ، هي أنه – مثله مثل أي فرع آخر من فروع المعرفة – يزيد معرفتنا بماهية الأشياء ، وكيف تعمل في مجال معين محدود. وإذا كان تقدم المعرفة سببًا كافياً لوجود أي فرع من فروع العلم ، فإنه يكون كافياً أيضا فيما يتعلق بعلم الأصوات. ولكن إذا كان السائل يفكر في استخدامات ملموسة بصورة أكبر ، فإننا لا نعدمها. وربما كان من المثير للاهتمام أن نقدَّم بعض الوصف لهذه الاستخدامات ، ولما نتوقع أن تسفر عنه الأبحاث في المستقبل.
نظام للغات غير المكتوبة
مازال هناك المئات والمئات من اللغات غير المكتوبة في العالم ، ومن المرغوب فيه إلى حد كبير أن نعطيها شكلاً كتابياً ، مما يحقق الفائدة للمتحدثين بهذه اللغات وللغويين على حد سواء. ومن المؤكد أن أكثر الطرق المُرضية في سبيل تمثيل اللغات كتابة ينبني على الأصوات. ويمكننا ـ كما هي الحال مع اللغة الصينية ـ أن نفكر في تخصيص شكل كتابي لكل كلمة من كلمات اللغة ، ولكن هذا ليس حلاً اقتصادياً ؛ إذ إن العدد الضخم من الحروف المختلفة التي لابد من تعلمها للتعامل حتى مع عدد محدود من المفردات ، سوف يشكل عبئاً ثقيلاً على المتعلم. وفي اللغات التي تتميز بتركيب مقطعي بسيط ، ومن ثم بعدد صغير نسبياً من المقاطع المختلفة ، ربما كان من المفيد أن نتوصل إلى أبجدية مقطعية syllabary بأن نعطي لكل مقطع حرفاً منفصلاً ، بمعنى أن كلمة تتكون من أربعة مقاطع يمكن تمثيلها بأربعة حروف متتالية كما في كتابة اللغة اليابانية واللغة العربية مثلاً ؛ وهذا بالفعل نظام مبني على الأصوات.
ولكن هذا لن يكون اقتصادياً على الإطلاق فيما يخص لغة مثل الإنجليزية التي تضم الآلاف من المقاطع المختلفة. ولذلك فإننا فيما يتعلق باللغة الإنجليزية نتوصل إلى نظام ألفبائي alphabetic system مبني على الأصوات أيضاً. والنظام الألفباني هو نظام يقوم على تحديد الفونيمات (الفونيم هو أصغر وحدة صوتية ، عن طريقها يمكن التفريق بين المعاني ، مثلاً بين "كلب" و "قلب" بحيث نعطي لكل فونيم حرفاً منفصلاً يمثله. وعندئذ تُمثل الكلمة بسلسلة من الحروف تمثل الفونيمات.
وعلى هذا فإن الكتابة الألفبائية للغة ما لا تتطابق مع الكتابة الفونيمية لها phonemic transcr iption ، إلا أنها تعتمد في المقام الأول على تحليل فونيمي كاف للغة، والذي بدونه لا يمكن وضع نظام كتابي من هذا النوع يبعث على الرضا.
النطق الصحيح للغات الأجنبية
وعلى المستوى العملي فإن الدراسة المتعمقة لجميع وجوه اللغات يجعل من تعليم اللغات الأجنبية بصورة أكثر كفاءة ونجاحاً أمراً ممكناً ، وهذا ينطبق على جانب النطق. ومازال هناك اعتقاد سائد بأن الطريقة الوحيد لاكتساب نطق سليم للغة أجنبية هي أن يذهب المتعلم ليعيش بين الناطقين الأصليين باللغة التي يتعلمها ، غير أن هذا ليس صحيحاً. ففي المقام الأول لابد من أن بعضنا قد صادف أمثلة لمتحدثين أجانب عاشوا لمدة سنوات وسنوات في مجتمع معين دون أن يكتسبوا حتى نطقاً قريبا من نطق المتحدثين الأصليين. وثانياً ، هناك الكثير من المتحدثين الأجانب الذين نجد أنهم عند زيارتهم الأولى لدولة أجنبية يتمتعون بنطق للغة الوطنية لهذه الدولة على أقصى درجة من الكفاءة ، لأنه قد تم تعليمهم تعليمًا جيدًا. وهناك قلة قليلة من الناس يمكن أن يصلوا إلى درجة الكمالٍ في هذه الناحية ، ولكن التعليم الجيد يمكن أن يُحدث تحسناً إلى الدرجة التي يكون فيها النطق محترما أو مقبولاً.
وأساس تعليم النطق السليم هو معرفة نظام كل من اللغتين وبنيتها ، اللغة الأصلية للمتعلم واللغة الأجنبية التي يتعلمها. فإذا كانت اللغة الأصلية تضم خمسة صوائت فقط (وهي ما تعرف خطأ باسم الحروف المتحركة) ، بينما تضم اللغة الأجنبية سبعة صوائت مثلاً ، فإننا نعرف أنه ستكون هناك صعوبة في نطق الصوتين الإضافيين. ليس هذا فحسب ، وبل أيضاً التنبؤ بمواطن الصعوبة التي تكمن في التفرقة بين بعض الصوائت في اللغتين. ومن ثم يمكننا تصميم بعض المواد التعليمية بهدف المساعدة على التغلب على هذه الصعوبة.
وبالمثل ، إذا كنا نعرف أن الصوائت في بداية الكلمة تأتي مفردة دائماً في بنية المقطع في اللغة الأصلية ، بينما تأتي على شكل عنقود صوتي cluster قد يصل إلى ثلاثة صوامت ، كما في اللغة الإنجليزية مثلاً ، فإنه يمكننا أن ندرك السبب الذي يجعل المتعلم المبتدئ يقول "إستاي" estay بدلا من كلمة stay ومعناها "يظل/ يبقى/ يمكث" ، أو يجعله يقول "إستريت" estreet بدلا من street ومعناها "شارع". ومثل هذه الأخطاء شائعة على ألسنة الطلاب العرب عند بداية دراستهم للغة الإنجليزية.
ومما لا شك فيه أن معرفة كيفية نطق الأصوات والفروق الدقيقة بينها ، وكيفية التمييز بينها سمعياً سوف ييسر إعطاء توجيهات فعالة للمتعلم فيما يتعلق بما يفعله حتى ينطق نطقاً سليماً وبما يستمع إليه حتى يفهم ما يقال. ولا شك أن الكثير من التدريب المتواصل تحت الإشراف الدقيق للمعلم من شأنه مساعدة المتعلم على أن يدع جانباً – أثناء تحدثه باللغة الأجنبية – عادات النطق لتي تميز لغته الأصلية ، وأن يكتسب عادات النطق الخاصة باللغة الأجنبية التي يتعلمها.
ولا شك أن هناك حاجة إلى مزيد من الصبر والتصميم عندما يكون المتعلم طفلاً يعاني من الصمم منذ مولده ، مما يترتب عليه أنه لا يستطيع أن يتكلم بصورة تلقائية وذلك لأنه لا يمكنه أن يسمع نفسه أو الآخرين. وتعليم مثل هؤلاء الأطفال الكلام عن طريق التركيز على النطق وبما يمكنهم إدراكه عن طريق حواسهم الأخرى عمل شاق ومضن ويحتاج إلى تكريس الجهد له.
ومن عيوب الكلام الأخرى التي تفيد من علم الأصوات في التغلب عليها هي تلك الناشئة عن إصابات المخ الشديدة. ولكن في هذه الحالة فإن السمع لا يتوقف ويمكن استخدامه في عملية إعادة التأهيل ، بشرط ألاَّ تكون الإصابة قد شملت جزءاً كبيراً من المخ.
وأصعب من هذا هي حالات استئصال الحنجرة بسبب إصابتها بمرض ويترتب على هذا ليس غياب الحبال الصوتية فحسب ، بحيث يستحيل الاستخدام العادي للصوت ، بل أيضاً غياب تيار النَّفَس الصالح للاستخدام العادي للصوت ، وذلك نظراً لأن القصبة الهوائية تُسَدُّ من أعلى لمنع الطعام من المرور داخل ممرات الهواء ووصوله إلى الرئتين ، بينما يتنفس المريض عن طريق أنبوبة في العنق تعرف باسم tracheotomy tube . وهناك حلان لهذه المشكلة :
• أولهما : الطنان buzzer الذي يمكن الاحتفاظ به بصورة دائمة في الفم أو يتم تركيبـه خارجياً على الحلق ، والذي ترن معه تجاويف جهاز النطق ، مثلما يحدث الرنين المصاحب للصوت الكلامي ، في حالة اهتزاز أو تذبب الحبال الصوتية.
• وثاني هذين الحلين هو الكلام المريئي oesophageal speech ، الذي يتوقف على إمكانية جذب الهواء داخل المريء ، وبمعنى آخر تجشؤ متحكم فيه.
الاتصالات
إن البحث في خصائص الكلام ، وبصفة خاصة في العلاقة بين البنية الفيزيائية والإدراك في إطار لغة معينة ، يساهم بصورة مستمرة في تحسين نظم الاتصالات. وليس من قبيل المصادفة أن شركة "بل" للتليفونات في الولايات المتحدة ، وإدارة البريد في إنجلترا وغيرهما من المؤسسات التي تُولي اهتماماً بالاتصالات تجرى أبحاثا من هذا النوع ، وذلك نظراً لأن تطوير أجهزة أو معدات تتميز بقدر أكبر من الكفاءة والاقتصاد إنما يتوقف على معرفة بالترددات ، والسعات (السعة هي مقياس كمية الحركة في التردد الواحد أو الذبذبة الواحدة) الأساسية في عملية الإرسال ، وماذا يمكن حذفه دون جعل النتيجة غير مقبولة للمستمع.
ولا شك أن تقييم شبكات التليفونات ، والاتصالات اللاسلكية ، وأجهزة التسجيل، وما أشبه ذلك ، إنما يقوم في النهاية على ما يمكن للأذن سماعه.
وقد تم تطوير وسائل متقدمة لتقييم الفروق بين كفاءة خصائص الإرسال المتبعة في هذه النظم. وتتيح هذه الوسائل طريقة دقيقة إلى حد معقول للمقارنة بين نظام وآخر ، ولإرساء معايير للسمع يمكن عن طريقها تحديد درجات الصمم. ولا شك أن لهذا ميزات عملية واضحة في تحديد التعويض المناسب في حالات الصمم الناتج عن الحرب أو مخاطر المهنة. وعن طريق ربطها بتجارب تهدف إلى تحديد أداء الأذن العادية والمصابة بالصمم عند ترددات مختلفة ، فإنها ساهمت في معرفتنا بدرجة الصمم ونوعه ، مما جعل من الممكن تطوير أجهزة لمساعدة السمع أكثر مناسبة لاحتياجات مستعملها.
وإذا ما انتقلنا إلى النظر إلى المتكلم ، وليس إلى المستمع ، فإن هذا أيضاً يقدم لنا وسيلة معقولة لتقدير كفاءة المتكلم عبر وسيلة اتصال معينة ، حينما تكون هذه الكفاءة على درجة كبيرة من الأهمية ، كما في حالة مراقبي حركة مرور الطائرات في الجو ، ولعل درجة القابلية للفهم في هذه الظروف تتوقف على وضوح المتكلم أكثر من توقفها على كفاءة المستمع ، وحيث يمكن أن يترتب على أي قصور من جانب المتحدث أخطار كبرى بل وكوارث. ويمكن التغلب على هذه المشكلة إما عن طريق استبعاد المتكلم غير الواضح أو عن طريق تحسين أدائه.
ولقد تقدمت معرفتنا بالنواحي السمعية والفيزيائية للكلام بدرجة تسمح بإنتاج توليف كلامي speech synthesis (أي إحداث أصوات كلامية بوسائل اصطناعية عن طريق توليد الموجات الصوتية ذات الترددات اللازمة) ؛ بمعنى أننا يمكن أن نقوم بتخزين القواعد في حاسب إلكتروني ، بحيث لو زودناه بتتابع من الفونيمات ، فإنه يقوم بتشغيل آلة لتركيب الكلام، وفقاً للقواعد ، وبحيث يُنتج إلكترونياً الترددات والشِّدات intensities (درجة القوة التي يُلفظ بها مقطع في كلمة) المتغيرة التي تجعل الرسالة مفهومة.
وعلى هذا فإننا نكون قد توصلنا إلى آلة كاتبة صوتية يمكن أن تُنتج كلاماً ذا درجة عالية عن طريق كتابة كلمات الرسالة باستخدام الآلة الكاتبة. ولقد شاهد كاتب هذا المقال حاسباً إلكترونياً مزوداً بشاشة ، يقوم الشخص بكتابة الرسالة التي يريدها فتظهر على الشاشة ثم يعطي أمراً للحاسب الإلكتروني بنطقها فينطقها. وهذا الجهاز رأيته في قسم يسمى "عالم الغد" في المركز المعروف باسم EPCOT Center الذي يقع في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا الأمريكية ، وكان ذلك في عام 1984م.
ولا شك أن المستقبل سيحمل إلينا – بمشيئة الله – المزيد والمزيد من تطبيقات علم الأصوات ، مما يفيد البشرية.